top of page

اطيب ما قيل عن مدينة القُدْس في كتب الجغرافيين والرّحالة العَرَب والمسلمين

تاريخ التحديث: ٥ يونيو ٢٠٢٣

د. نائلة الوعري


حفلت كتب التراث الجغرافي وكتب الرحالة بكثير من النصوص الهامة عن المدن والقرى الفلسطينية. بل يكاد لا يخلوا كتاب جغرافي أو معجم موسوعي من ذكر المدن الفلسطينية وفي مقدمتها مدينة القدس الشريف؛ ويرجع ذلك إلى المكانة الدينية التي تحتلها الأرض المقدّسة في قلوب المسلمين، عبر عصور التاريخ الإسلامي التي تلت الفتح العمريّ لمدينة القدس. ولوجود القدس على أرض فلسطين الطهور؛ والتي كانت قبلة المسلمين الأولى لمدّة ثلاث عشرة سنة ونيفاً، قبل أن يأمر الرسول e المسلمين أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام. وفيها ثالث الحرمين الشريفين، وهي مدينة الأنبياء، ومدينة الإسراء والمعراج، إضافةً إلى كثرة الأحاديث النبوية التي تحث المسلمين على شدّ الرحال إلى بيت المقدس وزيارتها والصلاة في مسجدها.

ولا ننسى المكانة العلمية التي تتميز بها القدس ابتداءً من القرن الخامس الهجري، حيث كانت مركز إشعاع علمي يقصده العلماء من كافة أصقاع العالم الإسلامي لطلب العلم والمجاورة ومجالسة العلماء.

لهذه الأسباب، كانت الأرض المقدّسة موضع اهتمام العلماء، وبرز نوع من الأدب الإسلامي يدعو إلى زيارة القدس والتبرك بمقدّساتها، وكثرت المؤلفات التي تبحث في فضائلها. ومن أهم المصادر التراثية كتب الجغرافيا والرحلات، التي تعرّضت بشكل واسع للمدن والقرى الفلسطينية.

أما في الجانب المتعلق بالرحلات فقد عَرِف التراث الجغرافي العربيّ أنواعاً عدّة من أدب الرّحلة، يتميّزُ بعضها عن بعض بالسبب الدافع لها، فمنها رحلات الحجّ (أو الرحلات الحجازية) التي تميّز بها المغاربة والأندلسيون وتركوا تراثاً غنيّاً غاية في الأهمية ودقّة الوصف والإفادات الفريدة. وهناك الرّحلات الجغرافية المرتبطة باكتشاف المكان والآخر، وتسجيل أوصاف المدن والجبال والأنهار وتقدير المسافات، بَرَعَ فيها عددٌ من الرحّالة جوّابي الآفاق، الذين وعوا أهمية ما يقومون به وسجّلوه. وهناك المذكرات الجغرافية التي سجّلها السُّفراء في بعوثهم، وتميّزوا بالملاحظة الذكية التي تطرّقت لجوانب مفيدة عمّن كتبوا عنه أرضاً وشعوباً وعادات. والجامع بين أنواع الرّحلة كلّها التطرّق إلى المكان والإنسان، ووصف الأرض وما عليها وما تُنْبته من نِتَاج، وذكر المتميّزين من الأعْيَان والعلماء الذين التقى بهم الرحّالة في تلك الأصقاع.

ويأتي في مقدّمة المدن المقصودة للزيارة، مَكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، لما لهما من القُدْسية والمكانة الدِّينية والعلمية على امتداد التاريخ الإسلاميّ، وهما مقصد الحاجّ لأداء مناسكه، يَنْجَذبُ إليها المسلمون من كافة الأصقاع، متجشّمين عناء السّفر وركوب الأخطار، وقد استأثرا بالنصيب الأكبر من أدب الرّحلة وارتبطا به.

ويأتي في المرتبة الثانية من حيث الكمّ، مدينة القُدْس الشَّريف، التي كانت مقصداً للرحّالة ومزاراً ومتبركاً وموئلاً لطَلَبِ العِلْم والمجاورة؛ لما لها من مكانة دينية ولارتباطها بالأرض المُقَدّسة، إضافة إلى كونها مركزاً علمياً يؤمّه علماء المسلمين من مختلف أنحاء العالم. واعتماداً على هذه المعطيات برز أدب إسلامي يدعو إلى زيارة القُدْس والتبرّك بمقدّساتها، وقد حفلت دور الكتب وخزائن المخطوطات بكمية كبيرة من الرّحلات المَقْدسيّة، وكتب الفضائل، وكان قرب المسافة ـ نسبياً ـ بين القُدْس والحِجَاز مدعاةً لكثيرٍ من الرحّالة المغاربة والأندلسيون للتوجّه لزيارة بيت المَقْدس بعد أداء فريضة الحجّ. فعند مدينة أيله (العقبة في جنوب الأُرْدن) يفترق ركب الحاجّ الشَّاميّ عن المِصْريّ، ومنها يختار زوار القُدْس التوجّه إليها بالبرِّ عبر غَزَّة أو الخليل.

من أقدم نصوص الجغرافيين العرب عن القدس نصٌ صغير للجغرافي ابن خُرْداذبة يقول فيه “كورة فلسطين: كورة الرّملة، كورة إيليا وهي بيت المقدس، وبينها وبين الرّملة ثمانية عشر ميلاً. وبيت المقدس كان دار ملك داود وسليمان عليهما السّلام ورحب عم بن سليمان وولد سليمان، ومن بيت المقدس إلى مسجد إبراهيم صلى الله عليه وقبره ثلاثة عشر ميلاً مما يلي القبلة”.

وذكرها باقتضاب الجغرافي المعروف باليعقوبي بقوله:” ولفلسطين من الكور: كورة إيليا وهي بيت المقدس، وبها آثار الأنبياء عليهم السّلام”.

وأفرد ابن الفقيه فصلاً كاملاً في كتابه للحديث عن بيت المقدس، وأورد جملة من الأحاديث الواردة في فضلها وفضائلها.

وقال الإصطخري “وفلسطين أزكى بلدان الشّام ومدينتها العظيمة الرّملة وبيت المقدّس يليها في الكبر، وبيت المقدّس مدينة مرتفعة على جبال يصعد إليها من كلّ مكان قصد من فلسطين، وبها مسجد ليس في الإسلام مسجد أكبر منه والبناء في زاوية من غربيّ المسجد يمتدُّ على نحو نصف عرض المسجد والباقي من المسجد فارغ إلاَّ موضع الصخرة فإنَّ عليه حجراً مرتفعاً مثل الدكَّة وفي وسط الحجر على الصخرة قبَّة عالية جدا وارتفاع الصخرة من الأرض إلى صدر القائم وطولها وعرضها متقارب يكون بضعة عشر ذراعاً وينـزل إلى باطنها بمراقٍ من باب شبيه بالسرداب إلى بيت يكون طوله نحو بسطة في مثلها.

وليس ببيت المقدّس ماء جارٍ سوى عيون لا تتَّسع للزروع، وهو من أخصب بلدان فلسطين، ومحراب داود عليه السلام بها وهو بنية مرتفعة ارتفاعها يشبه أن يكون خمسين ذراعاً من حجارة وعرضها نحو ثلاثين ذراعاً على الحزر والتخمين وأعلاه بناء مثل الحجرة وهو المحراب وإذا وصلت إليها من الرّملة فهو أول ما يتلقاك من بناء بيت المقدّس، وفي مسجد بيت المقدّس لعامَّة الأنبياء المعروفين لكّ واحد منهم محراب معروف وعلى ناحية جنوب بيت المقدّس على ستَّة أميال منه قرية تعرف ببيت لَحْم”.

وذكرها المقدسي البشاري في مواضع عديدة من كتابه، ووصف المدينة وخططها، ويعتبر وصف المقدسي من أدق ما كتب عن المدينة، لأنه يتحدث عن معرفة بطبيعتها، وهو من أهلها، لذلك نقل الجغرافيون كلامه في معرض حديثهم عن القدس. قال المقدسي في باب ذكر الخصائص في الأقاليم “وبمكة فصاحة، وبمرو دهاة، وصنعاء طيبة الهواء، وبيت المقدس حسنة البناء … ولا أفقر من أهل يثرب، ولا أعف من أهل بيت المقدس … فإن سأل سائل: أي البلدان أطيب؟ نظر فإن كان ممن يطلب الدارين قيل له: بيت المقدس، وإن كان مخلصاً آمنا من الطمع قيل مكة، وإن كان ممن يطلب النعمة والحيازة والرخص والفواكه قيل له كل بلد أجزاك وإلا فعليك بخمسة أمصار: دمشق والبصرة والري وبخارى وبلخ…”.

وذكر الشريف الإدريسي مدينة القدس وعدّد ما بها من المشاهد والمزارات، قال “وبيت المقدس مدينة جليلة قديمة البناء أزلية وكانت تسمى إيلياء وهي على جبل يصعد إليها من كل جانب وهي في ذاتها طويلة وطولها من المغرب إلى المشرق وفي طرفها الغربي باب المحراب وهذا الباب عليه قبَّة داوود عليه السّلام وفي طرفها الشرقي باب يسمى باب الرحمة وهو مغلق لا يفتح إلا من عيد الزيتون لمثله ولها من جهة الجنوب باب يسمى باب صهيون ومن جهة الشمال باب يسمى باب عمود الغراب وإذا دخل الداخل من باب المحراب وهو الباب الغربي كما قلناه يسير نحو المشرق في زقاق شارع إلى الكنيسة العظمى المعروفة بكنيسة القيامة وهي الكنيسة المحجوج إليها من جميع بلاد الروم التي في مشارق الأرض ومغاربها فيدخل من باب في غربها فيجد الداخل نفسه في وسط القبَّة التي تشتمل على جميع الكنيسة وهي من عجائب الدنيا والكنيسة أسفل ذلك الباب ولا يمكن أحدا النـزول إليها من هذه الجهة ولها باب في جهة الشمال ينـزل منه إلى أسفل الكنيسة على ثلاثين درجة ويسمى هذا الباب باب شنت مرية وعند نـزول الداخل إلى الكنيسة تلقاه المقبرة المقدسة المعظمة ولها بابان وعليها قبَّة معقودة قد أتقن بنيانها وحصن تشييدها وأبدع تنميقها وهذان البابان أحدهما يقابل الشمال حيث باب شنت مرية والباب الآخر يقابله من جهة الجنوب ويسمى باب الصلوبية وعلى هذا الباب قنبنار الكنيسة ويقابلها من جهة الشرق كنيسة عظيمة كبيرة جدا يقدس فيها إفرنج الروم ويقربون.

وعدّد الهروي جملة المزارات والمشاهد الدينية في مدينة بيت المقدس وما حولها، التي أوردها سلفه من الجغرافيون العرب، وتحدث عن المسجد الأقصى وقبة الصخرة.

وذكرها ياقوت الحموي في مادة “المقدس”، فتحدث أولاً عن المعنى اللغوي للكلمة، ثم أورد بعض الآيات القرآنية وقول المفسرين فيها، وبعض الأحاديث النبوية، ثم قال:” وقد وصفها القدماء بصفات إن استقصيتها أمللت القارئ، والذي شاهدتُه أنا منها أن أرضها وضياعها وقراها كلّها جبال شامخة وليس حولها ولا بالقرب منها أرض وطيئة البتة وزروعها على الجبال وأطرافها بالفُؤوس لأن الدواب لا صنع لها هناك، وأما نفس المدينة فهي على فضاء في وسط تلك الجبال وأرضها كلها حجر من الجبال التي هي عليها وفيها أسواق كثيرة وعمارات حسنة.



bottom of page