top of page

دور ونشاط القنصليات الأجنبية في هجرة واستيطان اليهود في فلسطين

على مدى سبعة عقود ونيف بدءاً من عام 1840م وحتى عشيّة الحرب العالمية الأولى 1914م، مارست البعثات القنصلية للدول الأوروبية أدواراً مختلفة في إطار تلك المجالات، إلاّ أنّ مدى ونسبة التأثر والتأثير تفاوتت بين دولة وأخرى تبعاً لسياساتها ومصالحها الحيوية وأطماعها التوسعية. وبخاصة أنّ هذه البعثات القنصلية الأوروبية خرجت عن إطارها الدبلوماسي المعهود وتجاوزت حدود نشاطاتها وصلاحياتها المتعارف عليها دبلوماسياً لتقوم بأدوار تجاوزت خطورتها حدود الزّمان والمكان، مستخدمة أدوات رسمية سخّرت لخدمة أهدافها وهي:

  • الامتيازات الأجنبية الممنوحة لدولها من قبل السلطان العثماني.

  • الإرساليات والبعثات الدينية والتبشيرية.

  • الرغبة البريطانية الرسمية في مساعدة اليهود على إقامة دولة لهم في فلسطين. تحت شعار” العودة الى ارض الميعاد “.

دور قناصل بريطانيا ونشاطهم المشبوه قد أدركت بريطانيا أهمّية التنافس بين كل من فرنسا وروسيا وأنه لم يكن في حقيقته تنافساً دينياً في الظاهر؛ لأنه كان في الحقيقة تنافساً سياسياً، من أجل ذلك كانت بريطانيا حريصة على تدعيم وجودها في فلسطين، وهذا ما يؤكد ويبرّر قيام بريطانيا وإسراعها في تأسيس قنصليتها في القدس عام 1838م ثمّ إنشاء فروع لها في حيفا ويافا وعكا وتعيين عدد من الوكلاء من السكان المحليين.

من جهة ثانية كان محور النشاط السياسي البريطاني في المنطقة هو تأسيس القنصليات البريطانية في المنطقة وخصوصاً القدس لأهميتها الدينية والاستراتيجية بالنسبة للولاية العثمانية ولتساعد في إنجاز مهام وزارة الخارجية البريطانية.

حرص القناصل البريطانيون في القدس على إنشاء مكتب تمثيلي قنصلي في حيفا وعكا ويافا، وفي أحياناً كثيرة تمّ تكليف نوّاب قناصل أو سكرتير أوّل من العرب، وكانت مهمة هؤلاء النواب مراقبة الموانئ البحرية التجارية في كل من عكا وحيفا ويافا حتى تكون بريطانيا على بيّنة بما يجري من أحداث في المدن الساحلية من فلسطين، حيث تشير سجلات المحاكم الشرعية في كل من القدس وعكا إلى ما كانت طالبت به القنصلية العامة في القدس من القضاة الشرعيين في هذه المدن، لاستئجار مقار لنواب القناصل، حيث حدد القنصل العام أهداف هذه المراكز، إلاّ أنّ الحقيقة أكّدت من بين السطور أنّ بريطانيا كانت جادّة في الإشراف على الموانئ التجارية؛ ليس من الجانب التجاري فحسب بل كان من خلال البعد العسكري مباشرة.

ويذكر أنّ وكلاء القناصل في كل من عكا وحيفا ويافا وصفد كانوا قبل إنشاء القنصلية البريطانية في القدس عام م1838، يتبعون القنصل العام لبريطانيا في بيروت، إلاّ أنّ المصلحة العليا لبريطانيا والأحداث الدولية هي الباعث لإقامة القنصلية العامة في القدس؛ لأهمية المدينة أولاً، ثمّ لحماية الأماكن والمصالح الدينية لبريطانيا في المنطقة.

إنّ بريطانيا ونتيجة ما يجري على الساحة الدولية دفعت وزير خارجيتها بالمرستون عام 1858م إلى الكتابة إلى القنصل العام في القدس تقول له فيها:

“إنّ حكومة بريطانيا تحاول جاهدة تكريس الوجود البريطاني في القدس وبالتالي في المدن الأخرى لحماية مصالحها الحيوية ورعاياها من الطائفة اليهودية” وعليكم القيام بواجبكم لحماية اليهود الوافدين إلى فلسطين بذريعة الرحلات المقدسة التي سمح لهم بها وأن تحولوا دون قيام الباب العالي بمنعهم من الإقامة وهذا واجب عسكري تسألون عنه.

وقد استطاع القنصل البريطاني الأول في القدس المستر( وليم يونج) Mr.Young) الذي تولى مهامه في العام 1839 الى العام 1845 أن يؤمن للقنصلية ولنفسه راتباً خاصاً ويفتح حسابات مصرفية في عدة بنوك منها عثمانية وأجنبية كي يسهل مهمته في شراء الأراضي ومساعدة اليهود المهاجرين من اليهود القادمين الى فلسطين ويلاحظ أنّ القنصلية البريطانية في القدس (التي أصبحت قنصلية عامة) أخذت تشرف مباشرة على حماية اليهود، والحيلولة دون التصدّي لهم أو التدخل في شؤونهم، كتب القنصـــل البريطاني إلى قاضــي مدينــة القــدس يؤكد فيهـــا أنّ القنصليـــة البريطانية هي المسئولة عسكرياً وسياسياً عن حماية رعاياها من اليهود في فلسطين وأنّ على القاضي الشرعي أن يأخذ ذلك بالحسبان رسمياً في معاملاته وتصرّفاته ومن أبرز القناصل الذين تعاقبوا على وظيفة قنصل عام، القنصل جيمس فن (Mr. Finn) (1845- 1862م) الذي لعب دوراً خطيراً في تشجيع الهجرة اليهودية الى فلسطين وكان يستقبل بنفسه المهاجرين قبالة شواطئ حيفا ويافا ويمنحهم الحماية البريطانية، وقد امتدت فترة عمله كقنصلاً بريطانياً حوالي 19 عام

أمّا في مجال بيع الأراضي لليهود فقد كان لقناصل بريطانيا الدور الكبير في التدخل والإشراف على معاملات شراء وبيع الأراضي؛

 

فقد تدخّل القنصل البريطاني تمبل مور (Mr. Moore) (1863-1890م) بتثبيت ملكية جمعية مرسلي الكنيسة الإنجليزية في فلسطين والتي كان من أهدافها مساعدة اليهود في شراء الأراضي من الفلسطينيين كما كانت البيوعات بين اليهود مع بعضهم البعض تتم عن طريق القنصلية البريطانية بيافا .وقد زادت بيوعات الأملاك غير المنقولة في مطلع القرن العشرين ما بين اليهود والأجانب في قضاء يافا، وبين الملاكين العرب بعد أن تجذّروا في المدينة وضواحيها وزاد عددهم إلى نحو ستة آلاف نسمة. وقد دلّت سجلات محكمة يافا الشرعية على الحركة التجارية النشطة في بيوعات العقارات التي كان يشرف عليها مجلس قومسيون المبيعات بقضاء يافا لدى العرب واليهود.

 

كما دلّت بعض الوثائق على أنّ قناصل الدول الأجنبية قد نشطوا في استملاك الأراضي والعقارات في المدن والقرى الفلسطينية عبر إقامة علاقات تجارية مع الملاك والتجار العرب، بل إنّ بعض القناصل تحولوا إلى تجار وملاكي أراض، ومقرضين الأموال للأهالي، فنائب القنصل البريطاني بتروشيلي في حيفا تحوّل إلى مالك للأراضي وتاجراً لها، وأقام علاقات وطيدة مع الفلاحين من خلال إقراضهم للمال بالتسليف وأخذ المستندات اللازمة عليهم. وقد ترتّب على هذا الأمر نقل ملكية مساحات كبيرة من الأراضي إلى اليهود والأجانب حتى غدت ملكية اليهود مسألة محسوسة.

إنّ أبرز ما قامت به بريطانيا من خلال قنصليتها في القدس وبمساعدة قنصلها تمبل مور(Mr.Moore) كان إقامة “جمعية التنقيب عن الآثار في فلسطين”، هذه الجمعية التي كان لها سلسلة من المهام تصبّ جميعها في مصلحة إقامة اليهود في فلسطين ووجودهم فيها، لقد مارس تمبل مور(Mr.Moore) صلاحياته الواسعة على مستوى فلسطين بأكملها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية محاولاً دعم النشاط اليهودي في مختلف أشكاله والوثائق المحفوظة في الأرشيف الصهيوني في القدس تحت الأرقام والتقارير المدرجة في سجلات المحاكم الشرعية في مدينة القدس تعكس بوضوح ما فعله قناصل بريطانيا تجارياً وزراعياً وصناعياً وعسكرياً لخدمة مصالح بريطانيا.

وإذا جاز لنا أن نحيط أكثر بالدور القنصلي لبريطانيا في القدس فسوف نجد أنها سمحت للطوائف الدينية اليهودية بالاستفادة من حقّ الحماية البريطانية وسهّلت لهم ضمانات وحصانات قانونية وأن يحاكموا أمام محكمة قنصلية وأن يعفوا من الضرائب.

كان هذا الدور الأبرز للقنصلية البريطانية وفروعها ووكلاء القناصل والقنصليات البريطانية في القدس وسائر فلسطين ودمشق على الاهتمام برعاياها وتحديداً اليهود الذين نالوا قسطاً وافراً من الحرية الدينية فقد كرست بريطانيا وجودها في أواخر القرن التاسع عشر من أجل موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين بشتى الأساليب والوسائل المناطة لديها مستخدمة كل الذرائع والحيل لإنجاز هذا الطلب.

باحثة في التاريخ الحديث والمعاصر

 
bottom of page