top of page

"القدس عاصمة فلسطين السياسية والروحية".. أنوار ساطعة منذ القدم

يجوز وصف بحث الدكتورة نائلة الوعري الجديد هذا "القدس عاصمة فلسطين السياسية والروحية.. 1908- 1948"، عن اجتماع الجانب السياسي بالجانب الروحي في "شخصية" مدينة القدس، بأنه حلقة في سلسلة تجسّد مشروعًا بحثيًّا، وكذلك نشاطًا متعدّد الأبعاد، ليس حيال القدس فقط، بل حيال فلسطين وقضيّتها عمومًا، في صراعها ومواجهتها مع المشروع الصهيوني العنصري، الاستيطاني والإحلاليّ والتهجيري التعسُّفي، المدعوم بترسانة إمبرياليّة لا تتورّع عن إيجاد الوسائل "القذرة" لدعم آخر كيان عنصريّ في العالم، على حساب حقّ الشعب الفلسطينيّ، في تقرير مصيره واستعادة حقوقه وإقامة دولته الديمقراطية- الحلم.

مشروع الوعري هذا، تؤشّر عليه وتؤكده مجموعة الأبحاث التي اشتغلت عليها خلال سنوات نشاطها البحثي، في جانب، فضلًا عن نشاطها "الحَراكيّ" فلسطينيًّا وعربيًّا ودوليًّا، في المؤتمرات والتظاهرات السياسية والفكرية التي تشارك فيها الوعري. ومن الجانب البحثيّ تترسخ هذه الوجهة عبر منهج في "التأريخ" لفلسطين القديمة والمعاصرة، منهج يقوم على جمع الشواهد على الحضور التاريخي (والحضاريّ) لفلسطين ومعالمها، ومنها القدس، في سجلّات التاريخ الممتدّ عبر القرون.

"تكتب الوعري عن مدينة بلغت خمسة آلاف سنة، ولا تزال أنوارها تسطع في الكون، على المسلم والمسيحيّ وحتّى اليهوديّ، لكن ليس الصهيونيّ الإمبرياليّ أبدًا. فهي مدينة السّلام والمحبّة التي لا يفهمها هؤلاء"


هي ليست مدينة واحدة وحسب، ولا يمكن اختزالها في حجارة وإدارة، ففي كتابها الجديد عن هذه "المدائن" (570 صفحة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2022)، ومنذ المقدّمة، تكتب الباحثة عمّا شهدته مدينة القدس، في تاريخها الحديث والمعاصر، من تحوّلات وتطوّرات ماديّة ومعنوية، أسهمت في رسم وتكوين منجزاتها الثقافية، والنهوض برسالتها الحضاريّة السامية، بأبعادها المحليّة والإقليميّة والدولية، وأنها ما تزال تواصل مسيرتها الرياديّة، وهي تدخل الألفيّة الثالثة بإرادة قويّة وعزيمة لا تلين، في تحدٍّ صارخ في وجه الصهيونية التي عملت كلّ ما في وِسعها لإنفاذ مشروعها الاستعماريّ على أراضيها، مدعومة بالقوى الاستعماريّة التي تعهّدت بالرعاية والمؤازرة، منذ انطلاق الحملة الصليبيّة السلميّة، وبدء التغلغل الاستعماريّ عام 1838 حتى يومنا هذا.

على هذا النحو تكتب الدكتورة الوعري عن مدينة بلغت خمسة آلاف سنة وأكثر، ولا تزال أنوارها تسطع في الكون كله؛ على المسلم والمسيحيّ وحتّى اليهوديّ، لكن ليس الصهيونيّ الإمبرياليّ أبدًا. فهي مدينة السّلام والمحبّة التي لا يفهمها هؤلاء. والباحثة هنا لا تكتب تاريخ القدس فقط، بل تاريخ فلسطين عبر ولايات عدة، العثمانية والإنكليزية والأردنية وصولًا للإسرائيلية، وحتى المستقبل.

"الكتاب هو حلقة في سلسلة تجسّد مشروعًا بحثيًّا ليس حيال القدس فقط، بل حيال فلسطين وقضيّتها عمومًا، في صراعها ومواجهتها مع المشروع الصهيوني العنصري، الاستيطاني والإحلاليّ والتهجيري التعسُّفي، المدعوم بترسانة إمبرياليّة لا تتورّع عن إيجاد الوسائل "القذرة" لدعم آخر كيان عنصريّ في العالم"


فهي في الفصل الأول من كتابها، تُعنى بموقع المدينة العظيمة، ومحيطها، بدءًا من حاضنتها الجغرافية ومسمّياتها وحدودها الماديّة والمعنوية، وانتقالًا إلى تحصيناتها المعنوية والمادية، العسكرية والأمنية والمدنية، ومواقعها المأهولة، وعمقها الإقليمي، ثم نشاطها العمرانيّ منذ انطلاق هذا النشاط في عام 1856، حتى الازدهار ما بين 1917- 1948، ثم فصل النموّ السكاني وسيادة الأمن والاستقرار وارتفاع معدّلات الولادة، وانخفاض معدّلات الوفيات، وعامل الهجرة، مع التغلغل الأجنبي والاستعمار، والمقاومة الشعبية مع اتساع سوق العمل والخدمات، وفي الفصل الخامس التشكيلات الإدارية وسيادتها، منذ التشكيلات العثمانية (1908- 1918)، ثم التشكيلات البريطانية (1917- 1949)، فالأردنية (1948- 1949)، ومن جهة السيادة فهناك تعدد أيضًا، في إدارتها ومراكز القيادة والتحكم، ومراحل الإدارة الفلسطينية للقدس بين 1908 و1948، ثمّ الإجماع المحلي والشعبي، والإجماع العربي والإسلامي في الفصل الثامن، وتدير الحديث في الفصل التاسع والأخير على الإجماع الدولي حول المدينة.

كتاب لا يمكن تلخيصه، لكن جوهره يتعلّق بما اصطلح عليه بعنوان "الحرب الصليبية السلمية"، التي استهدفت مدينة القدس منذ عام 1831. حرب بدأت مع حملة محمد علي باشا 1831-"الحكم المصري"- لاحتلال فلسطين بقيادة إبراهيم باشا وانتزاعها من الدولة العثمانية، ومن ثم توجُّهات بريطانيا وتطلُّعاتها الاستعمارية، ثم انتزاعها من الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى 1914- 1918، وهزيمة الجيش العثماني وانسحابه من المدينة في 9 ديسمبر 1917، حين احتل الجيش البريطاني القدس بنفس التاريخ الذي انسحب فيه الجيش العثماني، وتم تسليم المدينة، ودخل الجنرال إللنبي للقدس وخطب خطبته الشهيرة التي قال فيها "اليوم انتهت الحروب الصليبية"، وأصبحت القدس مقرًّا ثابتًا للإدارة العسكرية البريطانية، وتمّت المصادقة على هذ الاحتلال من قبل عصبة الأمم في جنيف، واعتمادها عاصمة سياسية لدولة الانتداب، ومقرًّا إداريًّا وسياسيًّا لدوائرها وهيئاتها العسكرية والمدنية".

"لاحظ رونالد ستورس، أولُ حاكمٍ للقدسِ (ما بين 1917-1926)، التحيز الواضح لبريطانيا تجاه الصهاينة، وكتب في مذكراته: لقد خرقت الإدارة العسكرية مبدأ "الوضع الراهن" في المسألة الصهيونية"


لاحظ رونالد ستورس، أولُ حاكمٍ للقدسِ (ما بين 1917-1926)، التحيز الواضح لبريطانيا تجاه الصهاينة، وكتب في مذكراته "لقد خرقت الإدارة العسكرية مبدأ "الوضع الراهن" في المسألة الصهيونية. كانت فلسطين ولاية تابعة للدولة العثمانية المسلمة، وكانت غالبية سكانها من العرب، وفي ظل سياسة "الوضع الراهن" كان علينا - بل كنا نتلقى تعليماتٍ- أن نقول للراغبين في إدخال تغييراتٍ سريعةٍ إننا مجرد "إدارةٍ عسكريةٍ"، ولسنا منظّمين مدنيين، وكان علينا أن ندير البلاد كما نفعل في مصر أو غيرها من البلاد ذات الأقليّات المهمة، مستخدمين الإنكليزية كلغةٍ رسميةٍ، وتقديم ترجمةٍ عربيةٍ مع معاملة المقيمين اليهود والأوروبيين والأرمن وغيرهم على النحو الذي نعاملهم به في مصر".

دراسة موسّعة ومتنوعة الأبعاد

دراسة استغرقت من الباحثة أربع سنوات من الجهد والتنقيب والغوص في الوثائق، وتصفّح صحف تلك الفترة ووثائقها الجديرة بالتقدير، بأعداد ضخمة، ثم الكتابة والتحرير والتدقيق، وما يتبع ذلك، أنجزت مهمّتها، وأنصفت مدينتها في هذا المؤلَّف، وعملت جاهدة على تسليط الضوء على فترة زمنية مهمة من تاريخ القدس، من خلال تفسير مفهوم العاصمة، وارتقائها للسيادة السياسية والروحية، في فترة عودة الحياة البرلمانية قبل انتهاء الحكم العثماني، وبدء الانتداب البريطانيّ، وتغطية فترة انضمام الضفة الغربية والقدس إلى الأردن، وتتويج القدس عاصمة روحيه للمملكة الأردنية الهاشمية .

"كتاب لا يمكن تلخيصه، لكن جوهره يتعلّق بما اصطلح عليه بعنوان "الحرب الصليبية السلمية"، التي استهدفت مدينة القدس منذ عام 1831. حرب بدأت مع حملة محمد علي باشا 1831 لاحتلال فلسطين بقيادة إبراهيم باشا وانتزاعها من الدولة العثمانية، ومن ثم توجُّهات بريطانيا وتطلُّعاتها الاستعمارية"


وربّما كان جوهر الدراسة الأساسي هو جهد الباحثة في مقاومة التطبيع، بكل أشكاله، وعن هذا الجهد يكتب الروائي المصري (ابنُ الإسكندرية) إبراهيم عبد المجيد ما يأتي: نصل إلى موقف العلماء الفلسطينيين من المشروع الصهيوني، في الفترة نفسها والنهضة العلمية والثقافية في مواجهة المشروع، الذي قام به مثقفون وعلماء مثل أحمد سامح راغب الخالدي، وأحمد عارف الحسيني، وأسعد الشقيري، وحنا عبد الله عيسى، وغيرهم، وميادين العمل ضد المشروع الصهيوني، وفضح من يسعون لذلك من ولاة في الشام وفلسطين، ومن سماسرة متعاملين مع الحركة الصهيونية، كذلك الفتاوى التي كانت كلها ضد ذلك، وضد المتعاونين مع الصهاينة، ما دعا الحكومة الاتحادية العثمانية عام 1912 لإصدار أوامرها إلى أجهزة الأمن بإيقاف الخطب والفتاوى التي اعتبروها متطرفة ضد المشروع الصهيوني.

هو كتاب جدير بالقراءة، ونتمنى وصوله إلى العامّة، لتخوض المعركة ضدّ الدولة الصهيونية ومن يستسلم لإملاءاتها.

bottom of page