د. مُحمّد الحوراني: “نائلة الوعري”… مَقْدِسيَّةٌ يَسْكُنُها عِشْقُ فلسطينَ وتاريخُها
- O2 graphic

- 16 سبتمبر
- 3 دقيقة قراءة

د. مُحمّد الحوراني
ما بينَ أزقّةِ القُدسِ وقداسَةِ جُدرانِها العتيقةِ العابقةِ بالأصالةِ والطُّهر، وجُذورِ شجرِ الزَّيتونِ المُبارَكِ المَرْوِيِّ بدِماءِ الشُّهداءِ عبرَ تاريخِ النِّضالِ والكِفاح الفلسطينيّ، تتنقّلُ المُؤرِّخةُ والباحثةُ المَقْدِسيَّةُ د.”نائلة الوعري” مثلَ صَقْرٍ يَرفُضُ النُّزولَ من علياءِ التَّمسُّكِ بحَقِّه، مُعلِناً تَماهِيَهُ الأبديَّ معَ قضيّةٍ هي الأقدسُ والأطهرُ والأصدقُ في تاريخ البشريّة، ولهذا، لا غرابةَ في أنْ تكونَ القُدسُ ساكنةً قَلْبَها وعَقْلَها على الرَّغمِ من أنّها أُخْرِجَتْ منها، وهي أحوجُ ما تكونُ إلى البقاء فيها.
صحيحٌ أنَّ رحيلَها القَسْريَّ عن القُدسِ وحاراتها القديمةِ كانَ في منزلةِ فصلِ الرَّضيعِ عن صدرِ أمِّهِ وحنانِها ودفءِ عطائها، لكنَّها آلَتْ على نَفْسها أن تكونَ الوليدةَ البارّةَ بأمِّها، كيفَ لا، وهي التي مَنَحَتْها الحياةَ والحُبَّ، وأرْضَعَتْها الانتماءَ؟! لذلكَ لم يَكُنْ غريباً عليها أن تُقابِلَ الحُبَّ بالعِشْقِ، والوفاءَ بالإخلاص، فآثَرَتِ التَّنقيبَ في كُلِّ ما يتعلّقُ بالتاريخِ الفلسطينيِّ عُموماً، والمَقْدِسيِّ خُصوصاً، مُتَعقِّبةً بهاءَ الحُضورِ الفلسطينيِّ في كُتُبِ الرَّحّالَةِ العَرَبِ والمُسلمينَ مُنذُ القرنِ الثالثِ الهجريِّ، حتّى القرنِ الرَّابعَ عشرَ.
ولم تَكُنِ الباحثةُ الحصيفةُ والمُؤلِّفةُ العميقةُ لِتُغْفِلَ عن أبحاثها ودراساتها المكانةَ الرُّوحيّةَ والسِّياسيّةَ للقُدسِ، وهي أُسُّ الصِّراعِ وأساسُ المُشكلةِ معَ المُحتلِّ الصّهيونيّ، وإذا كانَ بَعْضُهُمْ يرى في كتابِها “دَوْرُ القُنْصُليّاتِ الأجنبيّة في الهجرةِ والاستيطانِ اليهوديِّ في فلسطين 1840- 1914” واحداً من أهمِّ الكُتُبِ والأبحاث في موضوعِه، فإنَّ كتابَها الأخير “مسيرةُ النِّضال الشّعبيّ في القُدْس العاصمة ١٩١٧- ٢٠٢٥” يُعدُّ واحداً من أهمِّ الدِّراساتِ والأبحاث التَّحْليليّةِ المُعمَّقةِ التي تحدَّثَتْ عن النِّضال الشّعبيِّ الفلسطينيّ خلالَ أكثرَ من مئةِ عامٍ مِنَ التَّاريخِ الفلسطينيِّ الحديث، ولعلَّ قارئَ هذا المُجلَّدِ الفاتنِ بمعلوماتِهِ ومُعْطَياتِه يُوقِنُ بعُمقِ الانتماءِ لدى المُؤرِّخَةِ المَقْدِسيَّةِ التي قَطَعتْ على نَفْسِها عهداً بأنْ تَرفُضَ التَّطبيعَ معَ المُحتلِّ، وتُحارِبَهُ بشتّى الأدوات، وألّا تقبلَ بتأشيرةٍ صهيونيّةٍ مُباشرة أو بالتَّنْسيقِ الأمنيِّ معَ السُّلْطَةِ في رام الله. إنَّهُ الموقفُ المَقْدِسيُّ الأصيلُ الذي ما فَتِئَتِ الباحثةُ تفخرُ بهِ في ثنايا مُؤلَّفاتِها كُلِّها، ولهذا كانَ لا بُدَّ لها مِنْ أنْ تُؤرِّخَ للبداياتِ الأولى لحركةِ النِّضالِ الشعبيِّ في فلسطين، بما فيها القدس، لمُواجَهةِ المشروعِ الاستعماريِّ التَّوسُّعيِّ الاستيطانيِّ منذُ اللحظاتِ الأولى لوُصولِ طلائعِ الجيشِ البريطانيِّ خلالَ الحربِ العالميّةِ الأولى، بعدَ أنِ اجتازَتِ الحُدودَ المِصْرِيّةَ الفلسطينيّةَ عبرَ صحراءِ سَيْناءَ أو عبرَ الجَبْهَةِ الشّاميّة، حِينَها أعْلنَتِ القبائلُ في قضاءِ غزّةَ وفي بئرِ السَّبْع رَفْضَها التَّوسُّعَ والاحتلالَ البريطانيّ في أراضيها عام ١٩١٧، وانضمَّ قسمٌ من وُجَهاءِ العشائر إلى الثَّورةِ العربيَّةِ في الحِجازِ بقيادَةِ الشَّريفِ الحُسَين بن عليّ، وتستمرُّ هذه الثوراتُ بأشكالٍ سِلْميّةٍ أحياناً من خلالِ اللِّقاءاتِ والنَّدَواتِ والتعليمِ وغيره، وبأشكالٍ مُسلَّحةٍ في أحيانٍ أُخْرى كما هو الحال في الانتفاضاتِ، منذُ انتفاضَةِ الحِجارَةِ، حتّى طُوفان الأقصى، التي انطلقَتْ تحتَ شِعارِ الدِّفاعِ عن القُدْس.
وتُؤكِّدُ الباحثةُ في كتابها الأخير الصَّادرِ حديثاً عن المُؤسَّسةِ العربيّةِ للدِّراساتِ والنَّشْرِ في بيروت (٢٠٢٥)، أنَّ النِّضالَ الشَّعبيَّ في فلسطين، كما هو في أنحاءِ العالم كافَّةً، ما هو إلّا نمطٌ مِنْ أنماطِ المُقاوَمةِ التي تسيرُ وَفْقَ أهدافٍ وخططٍ وأنظمةٍ مُحدَّدة، لها رجالُها الأشِدّاءُ وأساليبُها الميدانيّة، ولا يقلُّ تنظيمُها عن تنظيمِ الكِفاحِ المُسلَّح، كما أنَّ مِنْ أُسُسِها الثابتةِ ومبادئها الراسِخَة، التَّحلِّيَ بالإرادةِ والصَّبْر والثَّبات ورباطة الجأش، وهيَ المبادئُ التي ستقودُ حتماً إلى النَّصْرِ مهما طالَ الزَّمنُ، وتَغَطْرَسَ الأعداء، وكما رحلَ الغُزاةُ والمُحتلُّونَ عبرَ التاريخ، فإنَّ الاحتلالَ الصهيونيَّ بكُلِّ جَبَرُوتِهِ وبَطْشِهِ سيَزُولُ، ولن يُؤدِّيَ الدَّعمُ الأميركيُّ والإرهابُ الصّهيونيُّ إلّا إلى مزيدٍ من التَّمسُّكِ الشَّعبيِّ بالحقوق الفلسطينيّة، ومِنْ ثَمّ انتصار هذا الشَّعب في معركتِهِ بمُقاوَمَتِهِ المُسلَّحةِ ونِضالِه الشَّعبيِّ بما يُمثِّلُهُ من مسارٍ جديدٍ في البحث التاريخيّ الذي لا بُدَّ لهُ مِنْ أن يُنْصِفَ هذا الشَّعبَ ومُقاوَمتَهُ مهما تآمَرَ المُتآمِرُونَ عليها.
وإذا كانَ وزيرُ الخارجيّةِ الأميركيُّ “ماركو روبيو” قد تحدّثَ عن علاقةٍ دينيّةٍ راسخةٍ بينَ الولاياتِ المُتّحدةِ الأميركيّةِ والكيان الصهيونيّ، بعدَ زيارتِهِ حائطَ البُراقِ وصلاتِهِ عِنْدَه، مُعبِّراً عن أنَّ التَّحالُفَ بينَهُما قويٌّ وصُلبٌ مثل حجارة “حائط المبكى” التي تَبارَكا بها، فإنَّ “نائلة الوعري” لا تدّخِرُ جهداً، ولا تُفوّتُ فُرصةً للدَّعوةِ إلى رَصِّ الصَّفِّ العربيِّ والإسلاميّ، معَ حرصٍ على تعزيزِ الوعي للوُقوفِ في وجهِ المُخَطَّطاتِ الصهيونيّةِ الأميركيّةِ التي تستهدفُ المُقدَّساتِ العربيَّةَ والإسلاميَّةَ في مدينةِ القُدْسِ، مُؤكِّدةً في مقالاتها وكُتبِها ولقاءاتها أنَّ “إسرائيل” أرادَتْ من الاعتداءاتِ العُنصريّةِ المُتكرّرَةِ على المَسْجِدِ الأقصى والمُصلِّينَ أنْ تختبرَ ردّاتِ فِعْلِ الأُمّتَينِ العربيّةِ والإسلاميّةِ تجاهَ ما يَحدُث، لكنَّ أهلَ القُدسِ والشَّعب الفلسطينيّ قالوا كَلِمَتَهُمُ الفاصلةَ في خِضَمِّ هذا الصِّراعِ ومُحاوَلاتِ تزييفِ الحقِّ وإثباتِ السّرّيّةِ الصهيونية، فالقُدسُ ومُقدَّساتُها لنا، ولا سُلطةَ للاحتلال عليها، ولا يُمكِنُ في حالٍ من الأحوال أن يستمرَّ الاحتلالُ الصّهيونيُّ لها أمامَ الإرادةِ الصُّلْبةِ للشعب الفلسطينيِّ في الداخل والخارج، وأمامَ ما يَنْهَضُ بهِ أبناءُ هذا الشعبِ ونُخَبُه مِنْ تكريسٍ للحَقِّ الفلسطينيِّ أمامَ المَزاعِمِ الصّهيونيّة.









تعليقات