عن مسيرة النضال الشعبي في القدس منذ 1917(محمود شريح)
- O2 graphic

- 8 أكتوبر
- 4 دقيقة قراءة

د. نائلة الوعري، الباحثة والمؤرّخة الفلسطينية، في جديدها "مسيرة النضال الشعبي في القدس العاصمة 1917 – 2025" (تقديم جوني منصور، وتنويه من إيلان بابيه، ومراجعة د. أمين أبو بكر، بيروت، 2025، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر)، تنطلق من مشروعيّة الثوابت الراسخة التي انطلق منها شعب فلسطين في مواجهته للمشروع الاستعماري مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وتعاظمه مع قيام الدولة العبريّة، وتماديه في حروبه وإكمال توسّعه وصولًا إلى إبادة غزّة وأهلها، فيما بقيت قلعة صمود، وبرهن أهلها على أنّ بلادهم ملكهم، وهم فيها باقون.
ترى د. الوعري أنّ الصهيونيّة العالمية وضعت حجر الأساس لمشروعها الاستعماري على التراب الوطني الفلسطيني في الحرب العالمية الأولى، بمساعدة المنظومة الغربية بقيادة بريطانيا العظمى، واستمرّت في ذلك إلى أن مكّنته منه عام 1948، وإحالته إلى دولة مكفولة بالقانون الدولي، قبل أن تنقل مهام قيادة المنظومة إلى الولايات المتحدة الأميركية التي ما زالت تتربّع على كرسيها حتى اليوم، ومنحتها قدرًا وافرًا من التحرّك والتمدّد باحتلال المزيد من الأراضي العربيّة، وقلبها النّابض مدينة القدس عام 1967.
وفي سبيل الحفاظ على ديمومة دولة إسرائيل كرأس حربة متقدّمة في المنطقة العربيّة، وتعزيزها بقنوات حطّمت بغزارتها كافة مقاييس المقارنة بين ما يمتلكه الشعب الفلسطيني، وما يتدفّق عبرها من الإمكانيّات والقدرات البشريّة والماليّة والصّناعية والتكنولوجيّة والعسكريّة من وراء البحار؛ فإنّ حركة النضال الوطني الفلسطيني تفوّقت بسلاح الإرادة الشعبيّة الصلبة.
ونتيجةً لدعم المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية اللامحدود مادّيًا ومعنويًّا، استمرّت الصهيونيّة العالمية ورأس حربتها في فلسطين، دولة إسرائيل، في ممارسة غطرستها وسياساتها العنصريّة الاستعلائيّة، والانفلات من العقوبات الدوليّة على مسمع ومرأى من العالم، بدون أيّ اكتراث بالقوانين والشرائع الدوليّة، وما يصدر بحقّها من انتقادات من بعض الدوائر الرسميّة والشعبيّة في تلك المنظومة والدوائر الأمميّة.
وبالرّغم من حجم التحدّيات التي فرضها المشروع الاستعماري في فلسطين، فإنّ الشعب الفلسطيني عقد العزم على مواجهته، فأطلق العنان لنضاله الشعبي منذ أن وطأت أقدام الجيش البريطاني أرضه، قادمًا عبر صحراء سيناء، واحتلاله لمدينة القدس صبيحة يوم 1917/12/9، ومنذ ذلك التاريخ نجح الشعب الفلسطيني في التّصدي للاحتلال ومقاومته بكل السّبل المتاحة.
تلحّ د. الوعري على أنّ الشعب الفلسطيني آمن إيمانًا قاطعًا بعدالة قضيّته وحقّه في المقاومة والنضال بكافة الطرق والوسائل، واتسم بحرصه الدؤوب على التمسّك بثوابته الوطنيّة الرّاسخة التي لا يمكن التنازل عنها، والمتمثّلة بحقّ تقرير المصير، ونيل الحرّية والاستقلال، وإقامة دولته المستقلّة وعاصمتها القدس، وحقوقه المشروعة المكفولة بالأعراف والشرائع، مؤمنًا بعدالة ما ذهب إليه، فرسم خطّ مساره، ووضع خططه وبرامجه التنفيذيّة، السلميّة منها والعسكريّة، بكل حنكة واتّزان. وهو على يقين تامّ بأنّ الاحتلال زائل لا محالة، مهما تعدّدت أقوامه، وتشكّلت أحلافه، واحتشدت أعداده، وتنوّعت ترساناته، وتفاخر بقدراته العسكريّة والصناعيّة والتكنولوجيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والإعلاميّة التي يوظّفها في الظّلم والطغيان والتحايل والتّزييف، وأنّ مقاومته الصّلبة الواثقة، المسلّحة بقوّة الحقّ والإرادة التي لا تُهزم، باقية مهما طال الزّمن. وأنّ الشّعب الفلسطيني أدرك منذ انطلاقة مسيرته النضاليّة أنّه يواجه أعتى هجمة استعماريّة عرفها العالم في تاريخه الحديث والمعاصر.
ترى د. الوعري أنّ التّحالف الغربي الصهيوني يتجلّى في المواقف الصّريحة المعلنة، على أقلّ تقدير، التي أدلى بها قادة وزعماء الدّول العظمى بحرصهم الشّديد على إقامة الوطن القومي، وإعادة اليهود إلى "أرض الآباء والأجداد" حسب زعمهم، ووقوفهم إلى جانب دولة إسرائيل منذ قيامها عام 1948، والتعهّد بحمايتها، والتسابق فيما بينهم لإصدار الوعد تلو الآخر، الذي حقّق فيه وزير الخارجيّة البريطاني بلفور قَدم السّبق بإعلانه في 1917/11/2 "وعد بلفور الشهير".
"الشّعب الفلسطيني أدرك منذ انطلاقة مسيرته النضاليّة أنّه يواجه أعتى هجمة استعماريّة عرفها العالم في تاريخه الحديث والمعاصر"
منطلق د. الوعري في كتابها، وحجر زاويته، أنّ العالم شهد عبر عصوره التاريخيّة المتعاقبة العديد من المواقف النضاليّة التي وثّقتها الشعوب على ترابها الوطني، وذلك بمواجهة الغزاة الطامعين بأسلحتها الشعبيّة البسيطة، وفي مقدّمتها سلاح الإرادة والثبات والصّبر، وعدم الخنوع والقبول بالذلّ والهوان، والانصياع لأوامر المحتلّين المستعمرين الذين استهدفوا وجودها، وعملوا على نهب خيراتها ومقدّراتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة ومنجزاتها الحضاريّة، وهو ما خلّدته ذاكرة التاريخ وسجلّاته من دون خوف أو وجل.
وتخلص فيه إلى أنّه، وفي ضوء ذلك، كانت تضحيات الشعوب ونضالاتها الشعبيّة ما زالت موضع فخر واعتزاز لأجيالها المتعاقبة، ومحطّ احترام وتقدير لدى الأمم والشعوب الحرّة في العالم. فعلى صعيد الأفراد والجماعات وحركات التحرّر والأحزاب والتيّارات الوطنيّة، لا بل غدت ميادين رحبة لرؤى القادة والزعماء، وجدَل المنظّرين، ومناقشات الفلاسفة، وآراء الحكماء، وتقنين المشرّعين، وأحكام القضاة، ومداولات المجالس النيابيّة والبرلمانيّة والأحزاب والتيّارات السياسيّة، ومجالات خصبة لاهتمامات الشعراء والأدباء والفنّانين والرّسامين والدّارسين والباحثين والكُتّاب، وهو ما منحها قدرًا وافرًا من الشرعيّة والتضامن الرّسمي والشعبي.
في تقديمه إلى هذا الكتاب، يردّنا جوني منصور، من مكان إقامته في حيفا، إلى التاريخ، فالفلسطينيّون منذ اللحظة الأولى واجهوا المشروع الاستعماري الصهيوني بما امتلكوا من أدوات نضاليّة وكفاحيّة، وإن كانت محدودة مقارنةً بما توفّر لذلك المشروع من دعم وأدوات من قِبل دول استعماريّة كبرى، على رأسها بريطانيا، ثمّ الولايات المتّحدة الأميركيّة، ودول غربيّة أخرى. مشيرًا إلى أنّ الهبّات والانتفاضات الفلسطينيّة التي بلغت أوجها في الثورة الكبرى عام 1936، استمرّت ولا تزال قائمة وفاعلة حتى يومنا هذا. فرغم النكبة التي حلّت بالشعب الفلسطيني عام 1948، فإنّ الصحوة الفلسطينيّة عادت لتحرّك الفلسطينيّين في أماكن شتاتهم القسري، مؤكّدة تمسّكهم بوطنهم وحقّهم في العودة إليه، وإقامة دولتهم الشرعيّة على أرض فلسطين، وعاصمتها القدس الشّريف.
وتحوّلت هذه الشّعارات إلى ثوابت وطنيّة لا يتزحزح عنها أيّ فلسطيني، وإن تخلّى عنها أحد فإنّه يتعرّض إلى نقد لاذع غير مسبوق، مقرًّا بأنّ الشعب الفلسطيني وجد نفسه منذ أواخر القرن التاسع عشر واقفًا أمام مشروع سرديّ مدعوم من قوى كولونياليّة – إمبرياليّة ضخّت المال والسّلاح والمخطّطات والغطاء الدولي لهذا المشروع، سواء في عصبة الأمم أو لاحقًا في هيئة الأمم المتّحدة.
وكلّما تقدّم الزمن، اتّسعت رقعة التغلغل الصهيوني في فلسطين، وأصبح على الفلسطيني أن يُعلن بصوت عالٍ أنّه يواجه خطرًا وجوديًّا، ويدرك أنّ عليه أن يتحرّك باستمرار لاستعادة أرضه وحقّه فيها. فلم يعرف الفلسطينيّون اليأس، حتى في أحلك الظروف، فقد أطلقوا ثوراتهم ونضالاتهم الشعبيّة والعسكريّة والأدبيّة والفكريّة، وكانت القدس محور هذه النضالات والمواجهات على مرّ العقود، من دون إغفال أهمّية ما يقوم به الفلسطينيّون في كلّ مواقع وجودهم، فالقدس هي رمز ووجود وحضور ورؤية مستقبليّة، وهي "حبل الصرّة" الذي يتمسّك به الفلسطينيّون المقدسيّون الذين يعرفون حقّ المعرفة أنّ أحدًا لن يشفع لهم بدون نضال شعبي.
وفي تعليقه على كتاب د. الوعري، اعتبر د. إيلان بابيه، الأستاذ المحاضر في جامعة إكستر الإنكليزيّة ومدير المركز الأوروبي لدراسات الشرق الأوسط فيها ومن نخبة المؤرّخين الجدد الذين أعادوا النّظر في نكبة 1948 فأنصفوا أهل فلسطين، أنّه كتاب رائع ورصين، وأنّه شهادة حيّة على الدليل القاطع على أنّ كلّ الجهود المبذولة لطمس فلسطين كوطن وبلد له شعبه وأهله وأصحابه وتاريخ ضارب بعمق في الزّمن لن تُفلح أبدًا.
كتاب "مسيرة النّضال الشّعبي في القدس العاصمة" دراسة تحليليّة وتوثيقيّة، إضافة إلى كونه مرجعًا أساسيًّا.









تعليقات