السلطان عبد الحميد وبؤس التأريخ الأيديولوجي المؤيد والمعارض
- O2 graphic

- 22 مايو 2023
- 6 دقيقة قراءة
تاريخ التحديث: 9 يوليو 2023
محمود حداد
عام 2007 نشرت الباحثة نائلة الوعري دراسة جادة بعنوان «دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والاستيطان في فلسطين 1840-1914» (عمان: دار الشروق). جاء الكتاب موثقاً وشاملاً في موضوعه ورصيناً في النتائج التي توصل إليها، مع أنه لم يخل من بعض الأخطاء التاريخية الطفيفة. وقد فصلت الباحثة دور القنصليات الأجنبية في سلب أرض فلسطين وتهريب المهاجرين اليهود إليها على رغم محاولة الدولة العثمانية منع الاستيطان الصهيوني، لكن تلك الدولة كانت قد شاخت وسرى الفساد في كل أجهزتها فأحكمت القوى الأوروبية الطوق عليها كما ذكر محمد صالحية أستاذ التاريخ في جامعة اليرموك في تقديمه للكتاب. بعد سبع سنوات نشهد صدور كتاب آخر يشدد على أطروحة مختلفة وإن لا يمكن اعتبارها معاكسة بالمطلق لأطروحة الوعري وهو كتاب فدوى نصيرات «دور السلطان عبد الحميد في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876-1909» (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014). وينحو هذا الكتاب «لا إلى اتهام السلطان عبد الحميد بالخيانة والتواطؤ بل بانتهاج سياسة تفريطية وبالمناورة الفاشلة والتردد الذي وفر الوقت الكافي للحركة الصهيونية لكي تجمع جهودها ونفوذها وتترجمه عملياً على أرض فلسطين». كما ذكر خالد الحروب في تعليق له على الكتاب («السلطان عبد الحميد: صورة البطل المزيف»، الحياة، 20 نيسان/ أبريل 2014) حيث هاجم التوظيف الأيديولوجي الشديد لمواقف السلطان عبد الحميد من قبل حركات الإسلام السياسي التي تنظر إلى السلطان عبد الحميد كبطل رفض طلب هرتزل شراء فلسطين وحاول إنقاذها من الصهيونية. لا أنوي الدخول في مغامرة تسييس الماضي لمصلحة الحاضر ولا تسييس التأريخ إن من ناحية اعتبار السلطان عبد الحميد الثاني بطلاً إسلامياً وخليفة مقاوماً للأطماع الصهيونية في الفترة التي تولى فيها الحكم (1876-1908) ولا اعتباره «بطلاً مزيفاً» بحسب توصيف الحروب لأنه عجز عن إنقاذ فلسطين وغيرها من البقاع العثمانية أمام هجمات الاستعمار الغربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولا أرغب في تهديم «أسطورة البطل» باستخدام نفس الأدوات لرسم أسطورة مضادة «للبطل المزيف» بل أفضل تفحص أطروحة «دور السلطان عبد الحميد في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين» كما هو عنوان الكتاب الذي قرأته بعناية لا تخلو من استغراب. إن الكتاب يفشل فشلاً ذريعاً في إثبات الأطروحة التي ينطلق منها فلا دور للسلطان عبد الحميد في تسهيل (أشدد على تعبير «تسهيل») النشاط الصهيوني، بل كان هناك عجز أمام الضغوط الأجنبية المتمثلة أكثر ما يكون بالامتيازات الأجنبية التي كانت سارية وقتها. وبحسب نصيرات نفسها قامت الدولة العثمانية بتنفيذ قرار منع الهجرة إلى فلسطين في حزيران/ يونيو 1882 لكن هذا الحظر كان مناقضاً لشروط اتفاقية الامتيازات الأجنبية مما أدى بالقناصل الأجانب إلى الاحتجاج وتراجع الحكومة العثمانية عن قرارها (نصيرات، ص. 72-74). وعلى رغم أن الدولة العثمانية بدأت مرحلة انحدارها قبل القرن التاسع عشر، إلا أن القرن المذكور كشف عن أكثر مظاهر ضعفها وتراجعها أمام الدول الأخرى المتربصة بها وأمام الإثنيات التي كانت تنزع للاستقلال عنها في مقاطعات أوروبا الشرقية العثمانية. والواقع أن هزيمة العثمانيين أمام روسية في حرب 1877-1878 أضعفها إلى درجة جعلتها تقبل على مضض باحتلال بريطانيا لجزيرة قبرص في 1878 ثم استيلائها على مصر في 1882 بعد أن كانت فرنسا قد احتلت تونس في 1881. ولا ننسى بالطبع أن العثمانيين كانوا قد خسروا الجزائر قبل ذلك بنصف قرن عام 1830. تقول نصيرات بالحرف: «أدت الصدامات بين العرب واليهود إلى حظر الهجرة اليهودية إلى فلسطين (مرة ثانية) عام 1886 وهو ما دفع مرة أخرى إلى احتجاج الدول الأوروبية على هذه الأوامر لأنها تعاكس نظام الامتيازات الأجنبية، فقام الباب العالي باتخاذ قرار رسمي حدد بموجبه مدة إقامة اليهودي في فلسطين بثلاثة أشهر… وفي العام نفسه طلب الباب العالي من متصرف القدس إبلاغ القناصل الأجانب استياء السلطان من عدم قيامهم بخطوات مباشرة من أجل إخراج اليهود الأجانب الذين انتهت مدة إقامتهم في فلسطين، وجاء الرد منهم أنهم لن يقبلوا بتنفيذ الأوامر حتى يتلقوا تعليمات من سفاراتهم في إسطنبول وهذا دليل آخر على عدم اهتمام الدول الأجنبية بقرارات الدولة العثمانية في شأن الهجرة، وأن القرارات ما هي إلا حبر على ورق ولم تنفذ على أرض الواقع». (ص. 74-75). من هنا، فإن قرار تسهيل الهجرة اليهودية كان قراراً أجنبياً اشتركت فيه دول متعددة مثل أميركا وألمانيا وبريطانيا وروسيا لأسباب دينية أيديولوجية تتعلق ببروز الفكر الأصولي البروتستانتي في الحالات الثلاث الأولى والرغبة في التخلص من السكان اليهود في روسيا الأرثوذكسية وسائر بلدان أوروبا الشرقية في الحالة الأخيرة. أضف إلى ذلك أن بريطانيا- كما ثبت بعد وعد بلفور ثم خلال الانتداب البريطاني- كانت ترى مصلحة إستراتيجية أساسية لها في إقامة كيان غريب يفصل المشرق العربي عن مصر وأفريقيا بعد تجربة محمد علي باشا واستيلائه على بلاد الشام في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وهذا واضح في كتاب نائلة الوعري حيث تعتبر أن مرحلة 1840- 1882 كانت منطلق المشروع الصهيوني برمته. هنا نتوقف لنلاحظ أن معظم هذه الفترة التي امتدت 42 سنة لم تكن ضمن فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، بل بدأت قبل توليه الحكم بنحو 36 عاماً ثم حكم في السنوات الست الأخيرة منها. (ومن المفيد أن نذكر أن مستعمرات غير صهيونية تابعة لأحد الاتجاهات الدينية الأصولية الألمانية المعروفة بالتامبلرز Templars أو الهيكليون كانت قد أُنشئت منذ أواخر ستينيات القرن التاسع عشر). كذلك، فإن كتاب الوعري يمتد إلى 1914 أي أنه يغطي الفترة من 1908 حتى 1914 وهي الفترة التي تلت الانقلاب العثماني على السلطان عبد الحميد وتولي جمعية الاتحاد والترقي الحكم حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. ونلاحظ أن هذه الفترة أيضاً والتي غاب فيها السلطان عبد الحميد عن السلطة لم تشهد انحساراً في النشاط الصهيوني بل ازدياداً لافتاً. ففي عام 1911 على سبيل المثال طرح النواب العرب في مجلس المبعوثان العثماني (البرلمان) قضية الصهيونية وأطماعها والتعاطف الذي لقيته من جمعية الاتحاد والترقي على رغم إنكار حكومة هذه الجمعية آنذاك لذلك التعاطف (الوعري، ص. 257). كذلك، فإن حالة الضعف العثماني استمرت في تلك الفترة حيث احتلت إيطاليا في 1911 ما أصبح يعرف في ما بعد بليبيا. من هنا فإن عنوان كتاب نصيرات مثير حقاً (وقد يدفع إلى تحقيقه لمستوى مبيعات تجارية عالية) لكنه خاطئ مع الأسف. ولو كان هذا الطرح صحيحاً لتغيرت السياسة العثمانية أثناء فترة حكم جمعية الاتحاد والترقي (1909-1918)، غير أن ذلك لم يحدث بل حدث تغيير نحو الأسوأ لنفس الأسباب في المرحلة التي تلت مرحلة حكم السلطان عبد الحميد وقبل انهيار الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. ففي الجدول رقم 1-2 في كتاب نصيرات «المستعمرات الصهيونية على أرض فلسطين خلال الحكم الحميدي 1876- 1909» (ص. 114-119) تسرد الباحثة أسماء تلك المستعمرات واحدة بعد الأخرى في الفترة المذكورة ولكنها تذكر أيضاً أن المستعمرة الأولى «مكفية إسرائيل» أسست على طريق يافا (بيازور) عام 1870 حين لم يكن السلطان عبد الحميد قد تولى الحكم كما أنها تذكر آخر أسماء أربع مستوطنات أقيمت سنة 1909 أي بعد الانقلاب العثماني في 23 تموز (يوليو) عام 1908 وبعد عزل السلطان في نيسان 1909. وهذه المستعمرات هي كنيرت في سمخ، دجانيا على الشاطئ جنوب طبريا، احوازات بيت (تل أبيب) في شمال يافا وبيت ناحوم في باب الخليل. وأنني أنصح الكاتبة بالاطلاع على المقال الشامل الذي نشره بالإنكليزية مؤلف صهيوني اعترف فيه بمركزية عامل الامتيازات الأجنبية في نجاح المشروع الصهيوني وأصدره بالإنكليزية بعنوان «نظام الامتيازات وتأثيره على العلاقات التركية- اليهودية في فلسطين: 1856- 1897»: Isaiah Friedman, “The System of Capitulations and its Effects on Turco-Jewish Relations in Palestine, 1856e1897”, in David Kushner (ed.) Palestine in the Late Ottoman Period: Social, political and Economic Transformation, (1986), pp. 280-293. وقد يقال إن دور جمعية الاتحاد والترقي في عدم مجابهة الخطر الصهيوني لا ينفي دور السلطان عبد الحميد المماثل السابق على ذلك. وفي هذا منطق مقبول، إلا أنه يزيل ضرورة «شخصنة» الموضوع المثار عن السلطان عبد الحميد بالذات. وربما كانت الموضوعية التاريخية تقتضي أن يكون عنوان كتاب نصيرات: «كيف استطاعت الحركة الصهيونية الأوروبية التغلب على السلطان عبد الحميد وعلى جمعية الاتحاد والترقي؟». ختاماً أُنهي هذا العرض بالإشارة إلى خطأ تاريخي وارد في الكتاب حيث يظهر أن نصيرات لم تكن دقيقة في استخدام ونقد مصادرها. فبالإضافة إلى الخطأ الوارد في إعدام نجيب عازوري عام 1904 (ص. 214) الذي ذكره الحروب، فإنها تذكر أن بعض الشخصيات الوطنية الفلسطينية أصدرت بياناً رسمياً عام 1900 سمي «وثيقة الخطر الصهيوني» حذرت بقوة عبر مجلس المبعوثان العثماني من تنامي الخطر الصهيوني وتعاظمه (ص. 195). وتنسى المؤلفة أن مجلس المبعوثان العثماني كان منحلاً منذ عام 1878 حتى عام 1908 ولم يكن له نشاط على الإطلاق في 1900. وهي تعتمد هنا، من دون تدقيق، على خطأ وقعت فيه أيضاً نائلة الوعري حيث ذكرت الأخيرة أن المنشور المذكور محفوظ في مركز إسعاف النشاشيبي في القدس. وبالعودة إلى كتاب الوعري نجدها تحيلنا في الصفحة 276 على الوثيقة الملحقة رقم 40 في كتابها. إلا أن قسم الوثائق في الكتاب المذكور لا يحوي «ملحق رقم 40»، بل أن الوثيقة ذات الصلة تأتي تحت عنوان «ملحق رقم 36» (ص. 353) وهو منشور كُتب بخط اليد ذكر فعلاً إنه محفوظ في مركز إسعاف النشاشيبي في القدس ولكنه لا يشير إلى مجلس المبعوثان، لا من قريب ولا من بعيد! * أستاذ التاريخ في جامعة البلمند – لبنان









تعليقات